زياد الرحباني .. أحببناه بلُغَة الشّتم… كما “فعَل هو”
بقلم :عبد الغني طليس
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
صانع موسيقى لهُ، لشخصيّته، لحاله الفنية التي تعب عليها شرقاً وغرباً، فَتَقَولَبت بهذه الأشكال التي نسمعها، وقادها خيالهُ النبّاعُ المُسيطر عليه وعلى أفكار المسرح، وأجنحة الموسيقى، وملائكة الغناء الحاضرة من حيث لا يحتَسِب هو ولا حنجرة المغنين ولو كانوا هواةً عابرين، فكيف بفيروز؟ كل ذلك، من دون نقصان، ولا زيادة، هو زياد الرحباني.
وهذا ما جعلَ أعماله قاطبةً تلامس الصدور العاشقة بحسّ فوق تجريدي، وتدهش العقول التي تدرك الاستثناءات في أفعال الفنانين الممسوسين عالمياً.
كان للنقاد والكتّاب أن يحلّلوا ما يريدون، وما زالوا، خصوصاً تحت عصف رحيله المفاجئ، في أهميته الكبرى ضمن تطوير الموسيقى أو تجديدها.
كان زياد في مكان آخَر أبعَد من التحليل والتصنيف، وأقرب إلى نفسه وما تشتاقه وتسعى إليه، بفطرة العُلماء، وعِلْم الفطرة معاً. هذا هو العمق الذي كان زياد ينتشل منه اللآلئ، في لُغة المسرح والموسيقى والأغاني، وكذلك في حواراته الإعلامية، ويطرحها على الناس فيحبونها، أو يحبون أكثرها، وأحياناً لا يحبونها، خصوصاً جماعة إدخال «سياسة» الشخص في النظرة إلى فنه، إذا كانت لهم اتجاهات مختلفة عما يعتقد زياد ويقول.
في السياسة، هم أحرار في تبخيسه قدْرهُ كونهم يرون عداء وحقداً وتزمتاً وهوائية في كل مُناقِض، غير أن الغباء المجلجِل هو في تغيير نظرتهم إليه، بحسب آرائه السياسية. يُراد أن يكون حماراً كمن التحقوا بالمال والشهرة والإغراءات ومشاريع «العروبة» الفنية المتمثّلة بـ«الحضن العربي» وإلا فلا.
نحن ندرك ذلك عبر مراقبتنا، أما هو فكان الأمر «متل إجرو» تماماً. هُوَ هُوَ. لا يتشبه بأحد، ولا يكمل تجربة أحد، ولا يعمل على تأكيد مدرسة فنية «خاصة» ولا شيء من هذا القبيل.
صانع مسرح وموسيقى من باطنِه الإنساني المترامي الأطراف بلا حدود. وذاتُ زياد وراء البيانو أو أي آلة موسيقية، أو على المسرح، حرّة، ذات جذور وبلا جذور فتكبر أغصانها خارج المتوقّع. ذاتٌ مستنفرة على الغامض الذي يأتي بشيء كما الوحي، وشيء آخَر من الذاكرة المأهولة بأجناس وأقوام وبشَر يُمَوسقون هوياتهم، وبأشياء عظيمة من الصنعة الفنية العالية التي، هي أيضاً تبدو اختراقاً يشبه الفتوحات. وتوزيعُه الموسيقي غاية في «العقل» (لا الجنون) المتفلّت المرصوص كبناء القلاع، لكنْ الشفاف، المفاجئ، المتدحرج كجلمود ثلجٍ حطّته العاصفة من علٍ.
نَقرة عود أو قانون، ونوتات قليلة من آلة تذهلُك كيف نبتت في خياله أولاً، وكيف كتبها، وكيف سمعها للمرة الأولى واطمأن إليها، وكيف أطلقها إلى الجمهور، «راجياً» بينه وبين نفسه أن تلفت السامع وتنبّهه إلى جمالها. وغالبيتنا ما كانت تعرف، بالضبط، ما تسمع. يحبّ أو لا يحبّ، أما تقدير تفاصيل العمل فمتروك على همّة… الآخرين.
كان زياد الرحباني بادع هوية، حقيقية، يَشتُم ويَسُب ويَكفُر في مسرحه ومقابلاته… وكان هو نفسه، يُشْتَم ويُسَبّ ويُكفَّر ممن لم تعجبهم مواقفه.
لكنّ العجيب الأقرب إلى الخَيال، أننا نحن الذين خلَب ألبابَنا بإنجازاته، كنّا نَشتم أمه «إعجاباً» به إذا مثّلَ، ونسُبّ أُختَه «تقديراً» لهُ إذا لحّن، ونلعن العائلة كلها إذا أضحَكَنا!
وقد سئلت فيروز مرّة عنه، في مقابلة إذاعية أواخر السبعينيات، فاستعانت بأُرجوزة قديمة، وقالت ما يُغْني عن أي كلام:
يا حبّذا ريحُ الولَدْ
ريحُ الخُزامَى في البلَدْ
أهَكذا كلُّ ولَدْ
أم لم يَلِد مثلي أحَدْ؟